الإمعان في معنى حديث الأرض الطيبة والأجادب والقيعان 2022-12-30 04:12:11
*خطبة جمعة بعنوان :(الإمعان في معنى
حديث الأرض الطيبة والأجادب والقيعان)*
*لشيخنا المبارك: أبي بكر بن عبده بن
عبدالله الحمادي حفظه الله*
*سجلت بتأريخ
٢٤صفر١٤٤٣ هجرية*
*مسجد المغيرة بن
شعبة*
إن الحمد لله،
نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}
[آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ
اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71]
أما بعد:فإن خير
الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،وشر الأمور
محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
جاء في الصحيحين
من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال:"مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ
الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الماءَ،
فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أجادِبُ، أمْسَكَتِ
الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بها النَّاسَ، فَشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا، وأَصابَتْ
مِنْها طائِفَةً أُخْرَى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ
كَلَأً، فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ، ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي
اللَّهُ به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بذلكَ رَأْسًا، ولَمْ
يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بهِ"، أخرجه البخاري (79)، ومسلم
(2282).
هذا حديث عظيم من
أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، بين فيه نبينا عليه الصلاة والسلام أحوال
الناس مع الوحي الذي جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن الله سبحانه
وتعالى أنزل الوحي على نبيه، أنزل القرآن على نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام،
وأنزل عليه أيضا الحكمة وهي السنة، فعلمه الله سبحانه وتعالى الكتاب والحكمة،
والحكمة هي سنته عليه الصلاة والسلام، والكل من عند الله، الكتاب من عند الله وهو
القرآن، والحكمة التي أوتيها نبينا عليه الصلاة والسلام أيضا هي من عند الله
سبحانه وتعالى،قال الله:{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[البقرة:151].
فعلمه الله سبحانه
وتعالى الكتاب والحكمة.
قال عليه الصلاة
والسلام في بيان أحوال الناس مع ما جاء به من الهدى والعلم،"مَثَلُ ما
بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ
أرْضًا"
والغيث هو :
المطر؛ والمطر إذا ما نزل فإن الأرض تحيا، تحيا الأرض بالمطر، فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد
موتها، فيحيي الله سبحانه وتعالى الأرض بعد موتها إذا ما نزل المطر، وهكذا الوحي
الذي أنزله الله عز وجل فإن القلوب تحيا به، قلوب من شاء الله عز وجل، ومن أراد
الله سبحانه وتعالى له الحياة، من أراد الله سبحانه وتعالى له الهداية، فإن قلبه
يحيا بالوحي، كما تحيا الأرض بالمطر النازل من السماء، قال عليه الصلاة والسلام:"مَثَلُ ما
بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ
أرْضًا" ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام أن الأرض تختلف تختلف، وهكذا قلوب
الناس تختلف، الأرض تختلف إذا ما نزل عليها المطر، وقلوب الناس تختلف إذا ما نزل
عليها الوحي، إذا ما نزل عليها العلم والهدى، ليست على حد سواء، فبين النبي عليه
الصلاة والسلام اختلاف الأراضي التي ينزل فيها المطر، فقال عليه الصلاة
والسلام:" فكانت منها طيبة" أرض طيبة مباركة إذا نزل عليها المطر حصلت
البركات العظيمات في تلك الأرض الطيبة، إذا نزل المطر فإن تلك الأرض تحيى وتنتفع
بهذا المطر، وينتفع الناس بتلك الأرض الطيبة المباركة "فكانت منها طيبة امسكت
الماء وانبتت العشب والكلأ الكثير فوقع المطر على تلك الأرض الطيبة فإذا بها تخرج
من خيراتها، فأخرجت العشب، وأخرجت الكلأ، وأخرجت ثمارها، وأخرجت الزروع، وأخرجت الزهور، وأخرجت أنواع البهجة من الأشجار المختلفة مما
يحتاج إليه الناس، ومما تحتاج أيضا إليه
الأنعام، كل ذلك خرج من تلك الأرض الطيبة، خرجت الثمار، خرجت الفواكه، وخرج
الخضروات، وخرجت الزروع بأنواعها،
وخرج العشب، وخرج
الكلأ من طعام البهائم، فانتفع بتلك الأرض البشر،
وانتفعت البهائم نفعاً عظيما، فهذه هي الأرض الطيبة، وهكذا هنالك من القلوب
شبيهة بهذه الأرض، إذا جاءها الوحي ودخل الوحي فيها دخل فيها كلام الله عز وجل،
ودخل فيها سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذا بتلك القلوب تحيا، تلك القلوب
فتنتفع بالوحي انتفعاً بالغا، فتعلم ما فيه، وتستنبط الأحكام العظيمة من كتاب الله
عز وجل، ومن سنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وتثمر العمل الصالح، فتعمل بما
علمت من كتاب الله عز وجل، ومن سنة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، وتعلم الناس
الخير، فتلك أرض طيبة، وتلك قلوب طيبة، هذه هي أشرف القلوب، شأنها كأشرف البقاع من
الأرض، فهنالك من أخذ العلم، وفهم هذا
العلم، واستنبط منه الأحكام العظيمة، وعمل به، فإن ثمرة العلم العمل، ندب العلم
بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، عمل بعلمه، وعلم الناس ما علم، فكان ممن قال الله
سبحانه وتعالى فيهم
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ
لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}[العصر:1،3].
فهؤلاء هم أشرف
الخلق، وهؤلاء هم أكرم الخلق على رب العالمين سبحانه وتعالى، قال عليه الصلاة
والسلام:" وكان منها أجادب" أرض ثانية دون الأرض الأولى، أرض أجادب صلبة
لا تنبت لصلابتها ولكنها تمسك الماء، فلا
يغور الماء في
جوفها، بل تمسك الماء فينتفع الناس بذلك الماء الذي أمسكته تلك الأرض، وكان منها
أجادب امسكت الماء فنفع الله الناس بها فشربوا وسقوا ورعوا" وهذه الأرض دون
الأرض السابقة، لكنها لا تخلو من خير، فإنها أمسكت الماء، لم يغر الماء في جوفها،
بل أمسكت الماء فانتفع الناس بذلك الماء فشربوا من ذلك الماء الذي أمسكته تلك
الأرض، وهكذا سقوا بهائمهم من ذلك الماء، وهكذا أخذوا ذلك الماء ونقلوه إلى أماكن
زروعهم فنتفعوا بهذا الماء انتفاعاً عظيما، فهذه أيضا أرض مباركة وهي دون الأرض
الأولى، هذه أمسكت الماء ولم يحصل منها الإنبات، لكن الناس انتفعوا بذلك، وهذا
كحال من أخذ العلم وحفظ العلم لكن ما عنده فهم لمعاني العلم، كالذي يحفظ كتاب الله عز وجل، أو يحفظ شيئاً من
سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام من غير فقه، لا يدري معاني كلام الله عز وجل،
يهتم بقراءة القرآن وبحفظه وبتجويده وبإعرابه ولا يهتم بمعرفته وفهمه، وفهم القرآن
وفهم السنة من الأمور المطلوبة، فإن ربنا سبحانه وتعالى يقول:{أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}[محمد:42].
وقال الله
:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}[النساء:82].
وقال
الله:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}[ص :29].
وقال
الله:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
(22)}[القمر:22].
فهؤلاء حفظوا ولم
يعلموا، ولم يفقهوا معاني ما حفظوا، لكنهم نقلوا العلم إلى غيرهم، نقلوا ما حفظوه
من كلام الله عز وجل إلى غيرهم، ونقلوا ما حفظوه من سنة رسول الله عليه الصلاة
والسلام إلى غيرهم، فانتفع الناس بما نقلوه، وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه الذي جاء في المسند، وعند أبي داود(2658)،
وعند الترمذي،وعند غيرهم، قال عليه الصلاة
والسلام:"نضَّر الله امرءًا سمِع مقالَتي فوعاها وحفِظها وبلَّغها فرُبَّ
حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ مسلمٍ : إخلاصُ
العملِ للهِ ومناصحةُ أئمةِ المسلمينَ ولزومُ جماعتِهم فإنَّ الدعوةَ تحيطُ من
ورائِهم".
فهؤلاء حملوا
العلم إلى من هو أفقه منهم فانتفع أولئك الغير بما حملوه من العلم فحصل منهم الخير،
فهؤلاء حصل منهم الخير، وحصل منهم المنفعة، لكنهم دون الطائفة الأولى، وهكذا الأرض
التي أمسكت الماء ولم تنبت العشب والكلأ هي دون الأرض الطيبة التي استقبلت الماء
وانبتت العشب والكلأ، وفي والأرضين خير،
وهكذا في القلبين
خير، فمن كان من أصحاب القلب الأول أو القلب الآخر فإنه في خير، وحصل منه الخير،
وحصل منه النفع، لكن المصيبة بأصحاب القلب الثالث والعياذ بالله، قال النبي عليه الصلاة والسلام:" وأصاب
طائفة أخرى إنما هي قيعان" أرض مستوية لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، إنما هي
قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، ليست فيه نفع في حال من الأحوال، لم يحصل منها أن
أنبتت شيئاً من الثمار والزروع والعشب والكلأ، جاء الماء إليها فلم تنبت
شيئا، وهكذا لم تمسك الماء لغيرها، لم
تنبت ولم تمسك الماء لغيرها، فليس فيها نفع بحال من الأحوال، وهذه هي الأرض
الخبيثة؛ التي ليس فيها منفعة، لا أنها تنبت الزروع والعشب والكلأ، ولا أنها تمسك
الماء حتى ينتفع الناس بذلك الماء، فهذه هي القلوب البعيدة عن رب العالمين سبحانه
وتعالى، البعيدة عن دينه وشرعه، اسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم إلى كل خير،
وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، واستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
*الخطبة الثانية:*
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن
يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده
ورسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
معاشر المسلمين،
هذه الأرض الخبيثة قال فيها نبينا عليه الصلاة والسلام:" وأصاب أرضاً إنما هي
قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ،فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله
به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي جئت به"
صاحب القلب الأول
أو القلب الثاني هؤلاء انتفعوا بما بعث به نبينا عليه الصلاة والسلام، انتفعوا
وحصل لهم شيء من الخير لهم وللناس، سواء الأرض التي استقبلت الماء وانبتت العشب
والكلأ الكثير، أو التي امسكت الماء فانتفع الناس بذلك الماء، فكل هؤلاء حصل منهم
النفع، وهذا أمر قد حاصل في الناس، فإن هنالك ممن مضى ممن نقلوا لنا شريعة
الإسلام، منهم العالم المدرك للعلوم الشرعية الذي آتاه الله العلم والفهم، آتاه
الله العلم والفهم والفقه؛ والفقه في دين الله عز وجل، كأمثال أئمة الإسلام،
كالإمام مالك، والشافعي، والإمام أحمد، والإمام البخاري، وغير هؤلاء الذين جمعوا
بين الحفظ والفهم، فهموا أحكام الشريعة، وفقهوا مراد الله سبحانه وتعالى في كتابه،
ومراد رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام في صحيح سنته، وهنالك من حفظ العلم ونقله
إلى غيره، كحفاظ الإسلام الذين اهتموا بحفظ الدين، بحفظ الشريعة من غير كبير فهم
وإدراك وفقه لكثير من أحكام ما رووه، فاهتموا بالحفظ وطافوا البلدان، وحفظوا
أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، بلغوها إلى غيرهم، "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب
حامل فقه ليس بفقيه" كما أخبرنا بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، هؤلاء انتفع
الناس بهم، وحصل النفع العظيم بهم، وهنالك من الناس من هو معرض عن دين الله عز وجل
بالكلية، لا يرفع لدين الله رأسا، ليس من أصحاب القلوب الأولى، ولا القلوب
الثانية، معرض عن دينه، وكأن الله سبحانه وتعالى ما أرسل إليه رسولا، وما أنزل
إليه كتابا، لا يبالي بأمر دينه، همه دنياه، معرض عن دينه بالكلية، غير ملتفت إلى
ما جاء عن الله، وما جاء عن رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، فذلك مثل ما بعثي
الله به فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به،ومثل من لم يرفع بذلك
رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي جئت به" وهذا حال أكثرالخلق إلا من رحم الله عز
وجل، عدم المبالاة بأمر الدين، والاهتمام البالغ بأمر الدنيا، يسأل عن أمر دنياه
في كل صغيرة وكبيرة، ويتحرى في أمر الدنيا في كل عظيم وحقير، وأمر الدين لا يبالي
به، معرض عن دينه بالكلية، لا يهتم به، ولا يرفع به رأسا، هؤلاء هم وقود النار
والعياذ بالله،{أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ (179)}[الأعراف:179]
قال فيهم العلامة
ابن القيم رحمة الله عليه : أولئك الذين تثقل بهم الأرض، وتغلو بهم الأسعار، هم
أحدهم في بطنه وفرجه، فإن علا ففي زينته وملبسه، فإن علا ففي رئاسته والإنتقام
لنفسه، ليس له هم في دين الله عز وجل، ليس له هم في كتاب الله، ولا في سنة النبي
عليه الصلاة والسلام، فإياك أن تكون يا عبد الله من هؤلاء، أقبل على دينك، فإن لك
به الرفعة في الدنيا وفي الآخرة، أقبل على تعلم العلم، وتفقه في دين الله عز وجل،
واهتم بأمر دينك، اهتم بأمر دينك أعظم من اهتمامك بأمر دنياك، فإن الدنيا لا تبقى فيها أنت، ولا تبقى الدنيا
لأحد،{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ (27)}[الرحمن:26،27].
الدنيا فانية فلا
تبقى لأحد، ولست بمعمر فيها فمآلك إلى الموت،
فاحرص أن تعمر دنياك بطاعة الله عز وجل،
والإقبال على دينه، والتفقه بكتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة
والسلام، فإن ذلك هو الطريق الموصي إلى الجنة، قال عليه الصلاة والسلام:"مَن
سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا ، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى
الجنَّةِ"،أخرجه أبو داود (3641) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
أما الدنيا فإنها
فانية، وعلمها فان بفنائها،{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ
يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ۚ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ
اهْتَدَىٰ (30)}[النجم:30].
قال الله
{وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)}[يونس:55].أي علم الدين علم
الآخرة.
وقال الله
{وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(6)يَعْلَمُونَ
ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}[الروم:6،7].
اسأل الله سبحانه
وتعالى أن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأن يرحمنا برحمته إنه هو الغفور الرحيم، اللهم
فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل، اللهم اجعلنا هداة المهتدين غير ضالين ولا مضلين،
اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم يسر على المعسرين واقض الدين عن
المدينين، وعافي مصاب المسلمين، واشف مرضاهم، وارحم موتاهم، إنك أنت الغفور
الرحيم، ربنا ظلمنا أنفسنا ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لنا
مغفرة من عندك وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب
إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم أمنا في
أوطاننا، اللهم من أراد ببلادنا سوءا ومكر وكيدا فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره
في تدميره واكف المسلمين شره إنك على كل شيء قدير،والحمد لله رب العالمين.
*سجلت بتأريخ ٢٤صفر١٤٤٣ هجرية*
*مسجد المغيرة بن شعبة*
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
أما بعد:فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الماءَ، فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أجادِبُ، أمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بها النَّاسَ، فَشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا، وأَصابَتْ مِنْها طائِفَةً أُخْرَى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ، ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بذلكَ رَأْسًا، ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بهِ"، أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282).
هذا حديث عظيم من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، بين فيه نبينا عليه الصلاة والسلام أحوال الناس مع الوحي الذي جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل الوحي على نبيه، أنزل القرآن على نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، وأنزل عليه أيضا الحكمة وهي السنة، فعلمه الله سبحانه وتعالى الكتاب والحكمة، والحكمة هي سنته عليه الصلاة والسلام، والكل من عند الله، الكتاب من عند الله وهو القرآن، والحكمة التي أوتيها نبينا عليه الصلاة والسلام أيضا هي من عند الله سبحانه وتعالى،قال الله:{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[البقرة:151].
فعلمه الله سبحانه وتعالى الكتاب والحكمة.
قال عليه الصلاة والسلام في بيان أحوال الناس مع ما جاء به من الهدى والعلم،"مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا"
والغيث هو : المطر؛ والمطر إذا ما نزل فإن الأرض تحيا، تحيا الأرض بالمطر، فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها، فيحيي الله سبحانه وتعالى الأرض بعد موتها إذا ما نزل المطر، وهكذا الوحي الذي أنزله الله عز وجل فإن القلوب تحيا به، قلوب من شاء الله عز وجل، ومن أراد الله سبحانه وتعالى له الحياة، من أراد الله سبحانه وتعالى له الهداية، فإن قلبه يحيا بالوحي، كما تحيا الأرض بالمطر النازل من السماء، قال عليه الصلاة والسلام:"مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا" ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام أن الأرض تختلف تختلف، وهكذا قلوب الناس تختلف، الأرض تختلف إذا ما نزل عليها المطر، وقلوب الناس تختلف إذا ما نزل عليها الوحي، إذا ما نزل عليها العلم والهدى، ليست على حد سواء، فبين النبي عليه الصلاة والسلام اختلاف الأراضي التي ينزل فيها المطر، فقال عليه الصلاة والسلام:" فكانت منها طيبة" أرض طيبة مباركة إذا نزل عليها المطر حصلت البركات العظيمات في تلك الأرض الطيبة، إذا نزل المطر فإن تلك الأرض تحيى وتنتفع بهذا المطر، وينتفع الناس بتلك الأرض الطيبة المباركة "فكانت منها طيبة امسكت الماء وانبتت العشب والكلأ الكثير فوقع المطر على تلك الأرض الطيبة فإذا بها تخرج من خيراتها، فأخرجت العشب، وأخرجت الكلأ، وأخرجت ثمارها، وأخرجت الزروع، وأخرجت الزهور، وأخرجت أنواع البهجة من الأشجار المختلفة مما يحتاج إليه الناس، ومما تحتاج أيضا إليه الأنعام، كل ذلك خرج من تلك الأرض الطيبة، خرجت الثمار، خرجت الفواكه، وخرج الخضروات، وخرجت الزروع بأنواعها،
وخرج العشب، وخرج الكلأ من طعام البهائم، فانتفع بتلك الأرض البشر، وانتفعت البهائم نفعاً عظيما، فهذه هي الأرض الطيبة، وهكذا هنالك من القلوب شبيهة بهذه الأرض، إذا جاءها الوحي ودخل الوحي فيها دخل فيها كلام الله عز وجل، ودخل فيها سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذا بتلك القلوب تحيا، تلك القلوب فتنتفع بالوحي انتفعاً بالغا، فتعلم ما فيه، وتستنبط الأحكام العظيمة من كتاب الله عز وجل، ومن سنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وتثمر العمل الصالح، فتعمل بما علمت من كتاب الله عز وجل، ومن سنة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، وتعلم الناس الخير، فتلك أرض طيبة، وتلك قلوب طيبة، هذه هي أشرف القلوب، شأنها كأشرف البقاع من الأرض، فهنالك من أخذ العلم، وفهم هذا العلم، واستنبط منه الأحكام العظيمة، وعمل به، فإن ثمرة العلم العمل، ندب العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، عمل بعلمه، وعلم الناس ما علم، فكان ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}[العصر:1،3].
يغور الماء في جوفها، بل تمسك الماء فينتفع الناس بذلك الماء الذي أمسكته تلك الأرض، وكان منها أجادب امسكت الماء فنفع الله الناس بها فشربوا وسقوا ورعوا" وهذه الأرض دون الأرض السابقة، لكنها لا تخلو من خير، فإنها أمسكت الماء، لم يغر الماء في جوفها، بل أمسكت الماء فانتفع الناس بذلك الماء فشربوا من ذلك الماء الذي أمسكته تلك الأرض، وهكذا سقوا بهائمهم من ذلك الماء، وهكذا أخذوا ذلك الماء ونقلوه إلى أماكن زروعهم فنتفعوا بهذا الماء انتفاعاً عظيما، فهذه أيضا أرض مباركة وهي دون الأرض الأولى، هذه أمسكت الماء ولم يحصل منها الإنبات، لكن الناس انتفعوا بذلك، وهذا كحال من أخذ العلم وحفظ العلم لكن ما عنده فهم لمعاني العلم، كالذي يحفظ كتاب الله عز وجل، أو يحفظ شيئاً من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام من غير فقه، لا يدري معاني كلام الله عز وجل، يهتم بقراءة القرآن وبحفظه وبتجويده وبإعرابه ولا يهتم بمعرفته وفهمه، وفهم القرآن وفهم السنة من الأمور المطلوبة، فإن ربنا سبحانه وتعالى يقول:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}[محمد:42].
وقال الله :{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}[النساء:82].
وقال الله:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}[ص :29].
وقال الله:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22)}[القمر:22].
فهؤلاء حفظوا ولم يعلموا، ولم يفقهوا معاني ما حفظوا، لكنهم نقلوا العلم إلى غيرهم، نقلوا ما حفظوه من كلام الله عز وجل إلى غيرهم، ونقلوا ما حفظوه من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى غيرهم، فانتفع الناس بما نقلوه، وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي جاء في المسند، وعند أبي داود(2658)،
وعند الترمذي،وعند غيرهم، قال عليه الصلاة والسلام:"نضَّر الله امرءًا سمِع مقالَتي فوعاها وحفِظها وبلَّغها فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ قلبُ مسلمٍ : إخلاصُ العملِ للهِ ومناصحةُ أئمةِ المسلمينَ ولزومُ جماعتِهم فإنَّ الدعوةَ تحيطُ من ورائِهم".
فهؤلاء حملوا العلم إلى من هو أفقه منهم فانتفع أولئك الغير بما حملوه من العلم فحصل منهم الخير، فهؤلاء حصل منهم الخير، وحصل منهم المنفعة، لكنهم دون الطائفة الأولى، وهكذا الأرض التي أمسكت الماء ولم تنبت العشب والكلأ هي دون الأرض الطيبة التي استقبلت الماء وانبتت العشب والكلأ، وفي والأرضين خير،
وهكذا في القلبين خير، فمن كان من أصحاب القلب الأول أو القلب الآخر فإنه في خير، وحصل منه الخير، وحصل منه النفع، لكن المصيبة بأصحاب القلب الثالث والعياذ بالله، قال النبي عليه الصلاة والسلام:" وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان" أرض مستوية لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، ليست فيه نفع في حال من الأحوال، لم يحصل منها أن أنبتت شيئاً من الثمار والزروع والعشب والكلأ، جاء الماء إليها فلم تنبت شيئا، وهكذا لم تمسك الماء لغيرها، لم تنبت ولم تمسك الماء لغيرها، فليس فيها نفع بحال من الأحوال، وهذه هي الأرض الخبيثة؛ التي ليس فيها منفعة، لا أنها تنبت الزروع والعشب والكلأ، ولا أنها تمسك الماء حتى ينتفع الناس بذلك الماء، فهذه هي القلوب البعيدة عن رب العالمين سبحانه وتعالى، البعيدة عن دينه وشرعه، اسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم إلى كل خير، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، واستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
*الخطبة الثانية:*
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
معاشر المسلمين، هذه الأرض الخبيثة قال فيها نبينا عليه الصلاة والسلام:" وأصاب أرضاً إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ،فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي جئت به"
صاحب القلب الأول أو القلب الثاني هؤلاء انتفعوا بما بعث به نبينا عليه الصلاة والسلام، انتفعوا وحصل لهم شيء من الخير لهم وللناس، سواء الأرض التي استقبلت الماء وانبتت العشب والكلأ الكثير، أو التي امسكت الماء فانتفع الناس بذلك الماء، فكل هؤلاء حصل منهم النفع، وهذا أمر قد حاصل في الناس، فإن هنالك ممن مضى ممن نقلوا لنا شريعة الإسلام، منهم العالم المدرك للعلوم الشرعية الذي آتاه الله العلم والفهم، آتاه الله العلم والفهم والفقه؛ والفقه في دين الله عز وجل، كأمثال أئمة الإسلام، كالإمام مالك، والشافعي، والإمام أحمد، والإمام البخاري، وغير هؤلاء الذين جمعوا بين الحفظ والفهم، فهموا أحكام الشريعة، وفقهوا مراد الله سبحانه وتعالى في كتابه، ومراد رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام في صحيح سنته، وهنالك من حفظ العلم ونقله إلى غيره، كحفاظ الإسلام الذين اهتموا بحفظ الدين، بحفظ الشريعة من غير كبير فهم وإدراك وفقه لكثير من أحكام ما رووه، فاهتموا بالحفظ وطافوا البلدان، وحفظوا أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، بلغوها إلى غيرهم، "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" كما أخبرنا بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، هؤلاء انتفع الناس بهم، وحصل النفع العظيم بهم، وهنالك من الناس من هو معرض عن دين الله عز وجل بالكلية، لا يرفع لدين الله رأسا، ليس من أصحاب القلوب الأولى، ولا القلوب الثانية، معرض عن دينه، وكأن الله سبحانه وتعالى ما أرسل إليه رسولا، وما أنزل إليه كتابا، لا يبالي بأمر دينه، همه دنياه، معرض عن دينه بالكلية، غير ملتفت إلى ما جاء عن الله، وما جاء عن رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، فذلك مثل ما بعثي الله به فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به،ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي جئت به" وهذا حال أكثرالخلق إلا من رحم الله عز وجل، عدم المبالاة بأمر الدين، والاهتمام البالغ بأمر الدنيا، يسأل عن أمر دنياه في كل صغيرة وكبيرة، ويتحرى في أمر الدنيا في كل عظيم وحقير، وأمر الدين لا يبالي به، معرض عن دينه بالكلية، لا يهتم به، ولا يرفع به رأسا، هؤلاء هم وقود النار والعياذ بالله،{أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}[الأعراف:179]
قال فيهم العلامة ابن القيم رحمة الله عليه : أولئك الذين تثقل بهم الأرض، وتغلو بهم الأسعار، هم أحدهم في بطنه وفرجه، فإن علا ففي زينته وملبسه، فإن علا ففي رئاسته والإنتقام لنفسه، ليس له هم في دين الله عز وجل، ليس له هم في كتاب الله، ولا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإياك أن تكون يا عبد الله من هؤلاء، أقبل على دينك، فإن لك به الرفعة في الدنيا وفي الآخرة، أقبل على تعلم العلم، وتفقه في دين الله عز وجل، واهتم بأمر دينك، اهتم بأمر دينك أعظم من اهتمامك بأمر دنياك، فإن الدنيا لا تبقى فيها أنت، ولا تبقى الدنيا لأحد،{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)}[الرحمن:26،27].
الدنيا فانية فلا تبقى لأحد، ولست بمعمر فيها فمآلك إلى الموت، فاحرص أن تعمر دنياك بطاعة الله عز وجل، والإقبال على دينه، والتفقه بكتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإن ذلك هو الطريق الموصي إلى الجنة، قال عليه الصلاة والسلام:"مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا ، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ"،أخرجه أبو داود (3641) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
أما الدنيا فإنها فانية، وعلمها فان بفنائها،{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ (30)}[النجم:30].
قال الله {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)}[يونس:55].أي علم الدين علم الآخرة.
وقال الله {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(6)يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}[الروم:6،7].